د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
الوعي.. الدرجة الأولى من هرم الخشوع، وهي نظرية للدكتور راغب السرجاني تُبَيِّن لنا درجات الخشوع في الصلاة بشكل مبتكر وواضح، فكيف نحقق الوعي المطلوب؟
نظرية هرم الخشوع تُبَيِّن لنا درجات الخشوع في الصلاة بشكل مبتكر وواضح، كما أنها تضع اليد بسهولة على الوسيلة العملية للانتقال من درجة إلى درجة دون تكلُّف أو تعنُّت.. وقد وجدتُ أن وصف الأمر بالهرم أقرب إلى الحقيقة، ليس فقط لأن المُصَلِّي يصعد من درجة إلى درجة بالترتيب؛ ولكن لأن عدد المُصَلِّين في الدرجة الدنيا كثير جدًّا؛ بينما يقلُّ عددهم تدريجيًّا كلما صعدنا إلى أعلى، وهذه طبيعة الهرم، والواقع أن الذي يصل إلى الدرجة الأخيرة في هرم الخشوع قليل للغاية!
وهذا الهرم مكوَّنٌ من خمس درجات، تكلمنا عنه بشكل موجز في مقال (هرم الخشوع.. نظرية لصلاة خاشعة) وسنتكلم في هذا المقال عن الدرجة الأولى منها، وهي:
◄◄الوعي
وأعني بها أن تعي ما تقول، وتفهم المعنى المقصود من الآيات والأذكار والدعاء، وهي أدنى درجات الخشوع، وإن لم تتوفَّر فَقَدَت الصلاة رُوحها تمامًا، ولا يُطلَق على صاحبها خاشع!
والمُصَلِّي في هذه الدرجة يفهم معنى الأمر الإلهي الوارد في الآيات ويستوعبه، ويُدرك العبرة من القصَّة التي يقرؤها، ويُمَيِّز الذِّكر الذي يُعَظِّم الله به، ويتفهَّم كلمات الدعاء التي يُرَدِّدها، وليس المقصود هنا أن يستوعب المصلِّي دقائق التفسير، أو لطائف اللغة، ولكن المقصود أنه يفهم المعنى فهمًا إجماليًّا الذي بدوره يدفعه إلى عمل صالح.. فإذا قرأ مثلًا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالحِينَ}[المنافقون: 10]، استوعب أن المقصود هو الحثُّ على الإنفاق، وأن الله هو الرزاق، وأن الموت يأتي بغتة، وأنه لا أحد يعود بعد الموت، وما إلى ذلك من معانٍ إجمالية عامَّة واضحة، وإذا قرأ مثلًا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[القمر: 10-12]، أدرك أن المقصود أن نوحًا -عليه السلام- دعا الله -عز وجل- أن ينصره على الكفار، وأن الله استجاب له، وأن طريقة الإهلاك لقوم نوح كانت عن طريق الطوفان، الذي نتج عن انهمار الماء من السماء، وتفجير ينابيع الماء من الأرض، وهكذا.
ولقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو يُصَلِّي صلاة الليل، فقال بلال رضي الله عنه: يا رسول الله؛ لِمَ تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران: 190]»[1]. ولعلَّ سبب الويل هنا أن الذي قرأها ولم يتفكَّر فيها لم يُحَقِّق أدنى درجات الخشوع؛ فهو وإن قرأ القرآن فإنه لم يُحَقِّق المراد منه؛ وهو التدبُّر والفهم والعقل، وقال عبد الرحمن بن سليمان[2]: سألتُ الأوزاعي عن أدنى ما يتعلَّق المتعلِّق ويُنجيه من هذا الويل؟ فأطرق هُنيَّة[3]، ثم قال: «يقرؤهنَّ وهو يعقلهنَّ»[4].
وفي هذه الدرجة لم تتحرَّك هِمَّة المُصَلِّي للعمل بعدُ، ولم تحثُّه نفسه على تنفيذ الأوامر الربانية؛ لكنه يفهم المراد فقط، أمَّا عندما تتحرَّك النفس للعمل فهذا يعني الارتقاء إلى الدرجة الثانية؛ وهي درجة الطمع كما سيأتي.
والذي لا يُحَقِّق هذه الدرجة لن يرتقي بالتأكيد في الدرجات التالية؛ فكل درجات هرم الخشوع مبنية على هذه الدرجة، وهي درجة الفهم والوعي والإدراك، وهذا قد يُفَسِّر لكثيرٍ من المصلِّين عدم قدرتهم على الوصول إلى الدرجات العالية من الخشوع، التي يَقرأ عنها في الكتب عن السلف الصالح؛ ذلك أن المـُصَلِّي يتمنَّى أن يصل إلى هذه الدرجات بشكل مباشر دون بذل الجهد أو الوقت في الدرجات الأولى، وهذا -في رأيي- محال، والأمور تجري بالسُّنَنِ، وليس من المعتاد أن ننجح دون فهم، ولا أن نُنتِج دون إدراك.
ولعلَّ السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا في هذه الدرجة الأولى من الهرم هو: لماذا لا نُحَقِّقُها أحيانًا -أو كثيرًا- على بساطتها؟! والإجابة تشمل عناصر كثيرة؛ لكن من أبرزها عنصران:
أمَّا العنصر الأول: فهو الجهل! فعدم إدراك معنى الآية، أو معنى بعض الكلمات فيها، يكون سببًا في عدم الخشوع فيها؛ فعلى سبيل المثال إذا قرأنا قول الله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا...}[العاديات: 1-5]، إذا قرأنا هذه الآيات دون إدراك معنى العاديات أو الضبح، أو الموريات أو القدح، أو المغيرات أو النقع فإنَّ خشوعنا لا بُدَّ أن يتأثَّر بهذا النقص في المعرفة، وعلاج هذه النقطة ببساطة هو العلم! فكلَّما تَعَلَّمنا أكثر زاد خشوعنا حتمًا، والأمر في الحقيقة نسبي؛ فالعلم واسع، وهو بحر لا ساحل له، وكلَّما ازددتَ علمًا ازددتَ خشوعًا؛ ولذلك أمر اللهُ رسولَهُ صلى الله عليه وسلم أن يطلب دومًا الاستزادة من العلم؛ فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه: 114].
وأمَّا العنصر الثاني: فهو انصراف الذهن! فالمُصَلِّي هنا يعرف تمامًا معنى الآيات؛ لكن ذهنه منصرف عنها بالكلية؛ فهو يُفَكِّر في عشرات ومئات الأشياء، التي تسحب روحه بعيدًا عن محراب الصلاة! فالذي يقرأ مثلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18]، ثم لا يخشع فيها فهذا لا يفتقر إلى العلم؛ فالمعنى واضح للعوامِّ، ومدلول الآية جليٌّ؛ لكنَّ المُصَلِّي منصرف عنه إلى غيره، وهذا علاجه يتضمَّن أمورًا كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المقال؛ بل هو موضوع كتاب كيف تخشع في صلاتك بكامله! فهو يحتاج بداية إلى أن يقدر لله قدره، ثم إلى تغيير منهج حياته تبعًا لذلك، ويحتاج إلى التوبة من الذنوب؛ التي أغلقت القلب وعزلته عن كلام الله سبحانه، وكذا يحتاج إلى محاربة الشيطان في الصلاة وخارجها، كما يحتاج إلى اتِّباع السُّنَّة في صلاته من أولها إلى آخرها؛ ليصل بنجاح إلى هذه الدرجة الأولى من هرم الخشوع، ومنها يصعد -بإذن الله- إلى ما بعدها من درجات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن حبان: كتاب الرقائق، باب التوبة، (620)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (68).
[2] هو: عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة (66هـ تقريبًا- 171هـ)، الفقيه، المحدِّث، الثقة من رجال الحديث عند البخاري ومسلم، وهو حفيد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه. الذهبي: سير أعلام النبلاء، 7/323-325، والمزي: تهذيب الكمال، 17/154، وابن حبان: الثقات 5/85.
[3] الهُنَيَّة: القليل من الزمان. ابن منظور: لسان العرب، مادة (هنا) 15/365، والمعجم الوسيط، 2/998.
[4] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/190، وأخرجه ابن أبي الدنيا في التفكُّر كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، 2/409، والمناوي: الفتح السماوي، 1/205.
◄◄ هذا المقال من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني
يمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك